الدكتور سعد خلف من موسكو لـ«جسور بوست» (1-2): إجبار الدول الأوروبية على شراء الغاز الروسي بالروبل سيكون فصلاً مهماً في اللعبة الخطرة
الدكتور سعد خلف من موسكو لـ«جسور بوست» (1-2): إجبار الدول الأوروبية على شراء الغاز الروسي بالروبل سيكون فصلاً مهماً في اللعبة الخطرة
-أمد العملية العسكرية قد يطول إذا دخلت الولايات المتحدة والناتو على خط الفعل العسكري المباشر
-دخول واشطن وعواصم الناتو في مواجهة مباشرة يضع العالم على حافة خطر حرب الفناء
-تطويق الجنود الأوكرانيين في الدونباس يعني فقدان الجيش الأوكراني السيطرة على إقليم البلاد
-مساعي إسرائيل للتهدئة تأتي بدافع مخاوفها من إمكانية شن المجموعات الإيرانية في سوريا هجمات عليها
-العقوبات الغربية على روسيا تفوق إجمالي ما فرض على كل من إيران وكوريا الشمالية وسوريا خلال 10 سنوات
-قد تتوقف العملية العسكرية خلال أيام إذا نجح المفاوض الروسي في إقناع نظيره الأوكراني بقبول مطالبه
في غضون أقل من شهرين تحول الجانب الشرقي من القارة العجوز إلى بؤرة اهتمام العالم، لتتصدر العملية الروسية في أوكرانيا المشهد العالمي بلا منازع، وتنذر بتغيرات جذرية في بنية العلاقات الدولية يصل مداها إلى مختلف دول العالم.
ومنذ نحو 45 يوماً جرى في نهر الاجتياح الروسي لأوكرانيا مياه كثيرة، بين التكتيكات العسكرية وطاولات المفاوضات والضغط بالمصالح الاقتصادية ومساعي التهدئة.
"جسور بوست" حاورت الدكتور سعد خلف، الباحث في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية والشؤون الروسية، والمقيم في موسكو، لاستجلاء ما يدور واستشراف ما سيحدث...
تقييمك لما آلت إليه الحرب الروسية على أوكرانيا ميدانيا، ولماذا تراجعت موسكو عن خطوط الإمداد شرق العاصمة الأوكرانية؟
العملية العسكرية في أوكرانيا بحسب التصور الروسي تسير وفق تكتيكات ناجحة حتى الآن وإن كانت بصعوبة، فالمرحلة الأولى منها تم الإعلان رسميا عن تحقيق أهدافها، أما قرار القيادة الروسية بالتراجع عن حصار منطقتي كييف وتشرنيهيف فيتم تفسيره في سياقين؛ أولهما: سياسي ومرده أن جولة التفاوض المباشر التي عقدت في إسطنبول التركية نهاية شهر مارس الماضي خرجت بتفاهمات بين الطرفين، وجد فيها الجانب الروسي استجابة من نظيره الأوكراني لمطالبه الرئيسية، التي لم تتحقق بعد من العملية العسكرية، لا سيما أن بعض هذه المطالب يعد متحققاً الآن بحكم الواقع مثل مسألة عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وبناء على هذه التفاهمات انسحبت القوات الروسية كإعلان عن جدية موسكو في التفاوض.
أما السياق الثاني: فهو العسكري، فالتشكيلات الروسية التي كانت متمركزة بالقرب من كييف كان يمكنها بالفعل السيطرة على المدينة، لكنها لم تفعل ذلك، فالقيادة الروسية رفضت اقتحام كييف، على الأقل في الوقت الحالي، لأنه ليس من المفيد الآن السيطرة على العاصمة، إذ سيتطلب ذلك جهدا مضاعفا من الجيش الروسي، في وقت لم ينجز بعد الهدف العسكري الرئيسي من العملية، وهو السيطرة على محور جنوب شرق من أجل تأمين منطقة الدونباس، لأن السبب الأول من العملية العسكرية هو أن سكان جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك على مدى 8 سنوات تعرضوا لأعمال قتل جماعية وممارسة الأساليب الوحشية ضدهم، ومنها الحصار والأعمال الانتقامية والترهيب والقصف المتواصل.
كما أطلقت روسيا عمليتها العسكرية بعد أن باتت لديها معلومات بأن أوكرانيا بتحريض من الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية، كانت تستعد بشكل ممنهج لسيناريو استخدام القوة وارتكاب "مذبحة دموية" وأعمال تطهير عرقي في الدونباس، وأكد بوتين في كلمته خلال اجتماع للحكومة بعد إطلاق العملية أن شن أوكرانيا هجمات واسعة على دونباس ثم على القرم مسألة وقت لا أكثر، لكن القوات المسلحة الروسية بشنها هذا الهجوم الواسع المسبق أحبطت هذه المخططات، إضافة إلى هدف عسكري آخر لا يقل أهمية، وهو احتلال الساحل الأوكراني على بحر أزوف والبحر الأسود، حيث الموانئ الرئيسية في ماريوبول وأوديسا.
وتحرك القوات الروسية من منطقة كييف في اتجاه جنوب شرق، يكمن أيضا في أن هناك تقارير مختلفة تفيد بتركز ما بين 50 إلى 90 ألفا من جنود الجيش الأوكراني في منطقة الدونباس خلف خط التماس قبل انطلاق العملية العسكرية، وهذا رقم كبير مقارنة بتعداد الجيش الأوكراني النظامي الذي يبلغ 250 ألفا تقريبا، إضافة إلى 90 ألفا من المليشيات المسلحة التي تعمل معه، فإن تطويق هذا الرقم الكبير من الجنود الأوكرانيين في الدونباس يعني عمليا فقدان الجيش الأوكراني للسيطرة على إقليم البلاد، وبذلك سيكون تحرك الجيش الروسي أسرع وأقل تكلفة في باقي الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك احتمال العودة للسيطرة على كييف، إن لم تتحقق الأهداف الروسية في إطار التفاوض.
ما أسباب إطالة أمد العملية العسكرية؟ وتوقعاتك بالمدى الزمني الذي من المُرجح أن تستغرقه، سيما في ظل وجود توقعات باستمرارها عدة أشهر أخرى؟
أولاً: توقعات المحللين العسكريين للمدة المفترضة أو المتوقعة لها جاءت مبنية على المقارنة بين قدرات الجيشين الروسي والأوكراني وفارق الإمكانيات والتسليح والتدريب الهائل بينهما، ما دفع الكثيرين للاعتقاد بأن الجيش الروسي سيحسم المسألة في غضون عدة أيام، ولكن هذه التقييمات كانت خاطئة ولا تزال يجانبها الصواب لأنها أغفلت ما يقوله صانع القرار الروسي، أي التصريحات والإعلانات الرسمية للرئيس بوتين، مَن ينصت جيدا لها في إطار هذه العملية العسكرية يمكنه إلى درجة ما الاقتراب من فهم التصور الروسي لها، فبوتين عندما أطلق العملية العسكرية لم يصفها بالحرب وهذا معناه أنها ليست حربا شاملة، كما أنه أكد أن روسيا لا تسعى لاحتلال أوكرانيا عسكريا، وما يدلل على مطابقة هذا التصريح للواقع هي عدة حقائق أهمها عدد القوات التي تستخدمها روسيا في هذه العملية والتي لا تتجاوز حتى الآن بحسب التقارير العسكرية 20% من إجمالي تعداد الجنود النظاميين في الجيش الروسي والذي يضم في صفوفه ما يزيد قليلا على مليون ضابط وجندي مقاتل وعامل.
ثانياً: أوكرانيا من حيث المساحة تعادل تقريبا مساحة دولة مثل ألمانيا أو فرنسا والسيطرة على دولة كبيرة بهذا الحجم ومدنها الكبرى ذات الكثافة السكانية العالية أمر لا يمكن تحقيقه في عدة أسابيع، فضلاً عن التكتيك الذي ينتهجه الجيش الروسي منذ بداية العملية وهو ضرب البنى التحتية العسكرية فقط وتلافي قدر الإمكان قصف المنشآت المدنية والبنية التحتية المدنية، إضافة إلى محاولة تجنب إسقاط المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين لاعتبارات كثيرة أبرزها العلاقات التاريخية والثقافية والدينية التي تربط بين الشعبين الروسي والأوكراني.
كما أن بوتين عند إطلاقه العملية العسكرية حدد لها الأهداف وأعلنها، لكنه لم يعلن عن إطار أو سقف الزمني لتنفيذها، ولذلك أُرجح أنها قد تتوقف -ولا أقول تنتهي- خلال أيام إذا نجح المفاوض الروسي في إقناع المفاوض الأوكراني بقبول مطالبه أو الحد الأدنى منها التي لا يرتضي بغيرها، خاصة بعد كل هذه التبعات العسكرية من خسائر في أرواح الجنود والجرحى، والمعدات والتقنيات العسكرية، وكذلك العقوبات والحرب الاقتصادية، فضلا عن محاولات العزلة السياسة والإضرار بالسمعة الدولية لبلادهم.
ولكن إذا لم يستجب الجانب الأوكراني للمطالب الروسية نظرا لغياب الإرادة أو الاستقلالية اللازمة لدى القيادة الأوكرانية لاتخاذ مثل هذه الخطوة، فالقرار الخاص بالتفاوض أو مواصلة الحرب على الأرجح لا يتخذ في كييف، بل في واشنطن، وذلك قد يطول أمد العملية العسكرية أكثر مما نتوقع إذا أخذنا بعين الاعتبار دخول الولايات المتحدة والناتو بقوة على خط الفعل العسكري المباشر بتوريدات كبيرة من الأسلحة والانتقال إلى توريدات نوعية، لم يسمح بها خلال الشهر الأول من العملية، بهدف إنزال أكبر خسائر ممكنة بالجيش الروسي، مع عدم الاعتبار للأعداد الكبيرة للقتلى في صفوف الجيش الأوكراني وكتائب القوميين الذين تصفهم موسكو بـ"النازيين الجدد"، وإن كانت واشنطن وعواصم الناتو تعزف حتى الآن عن الدخول في مواجهة مباشرة بقواتهم، ما قد يضع العالم على حافة خطر حرب الفناء للكل.
وما تقييمك لمدى جدوى مساعي التهدئة، وهل هناك مساعٍ تعد الأكثر تأثيراً أو قدرة على فرض التهدئة كواقع من وجهة نظرك؟
منذ بداية موجة التصعيد الأخيرة بين الغرب وروسيا نهاية العام الماضي، وقبل أن تدخل إلى مرحلتها الساخنة في الساحة الأوكرانية، كان المعسكر الغربي به مواقف متباينة، وإن بدا متضامنا في فضاء التصريحات، كان الموقف الأمريكي البريطاني أكثر تشددا ويدعو للتصعيد، وفي فلكه دارت بلدان أوروبا الشرقية والبلطيق بسبب العداء التاريخي لروسيا، وكانت هناك أيضا مواقف بلدان أوروبية رئيسية كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وفنلندا والسويد والنمسا التي حاولت التهدئة وتخفيف حدة التصعيد نظرا لارتباطها بمصالح اقتصادية وتجارية قوية بروسيا، إلى جانب فهمها وإدراكها بأن حربا كبيرة في أوروبا أول من سيكتوي بنارها هم المواطنون الأوروبيون وبلدانهم واقتصاداتهم ومستقبل أبنائهم.
بعد بدء العملية العسكرية بدأت تتوالى مساعٍ عديدة للتهدئة قادها عن المعسكر الأوروبي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لكن مساعيها لم تلق استجابة في موسكو، لأن أوروبا بدخولها في الحرب الاقتصادية الشاملة ضد روسيا لا يمكن الاعتقاد بأنها يمكن أن تلعب دور الوسيط المحايد، أما المساعي الإسرائيلية فقد بدأت بتصريحات لوزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد، أكد خلالها أن بلاده مستعدة للتوسط في الصراع، وأن تل أبيب تظل محايدة، ولا تشارك في العقوبات، ثم جرت عدة مكالمات هاتفية بين رئيس الوزراء نفتالي بينيت، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلا عن زيارة خاطفة لبينيت إلى موسكو، وهذا أساس جيد لجهود الوساطة، ولكن رغم أن إسرائيل دولة جادة تمامًا وذات نفوذ، إلا أن دوافع مساعيها لهذه الوساطة مرتبطة بمسألة الوجود العسكري الروسي في سوريا، والمخاوف المرتبطة بإمكانية سماحها للمجموعات الإيرانية بشن هجمات على المواقع الإسرائيلية، بما فيها الجولان، نظرا لانخراط روسيا في عملية أوكرانيا وانشغالها أو غضها الطرف عن ذلك، وهي التي -كانت حسب الاعتقاد السائد- تكبح جماح هذه المجموعات عن تنفيذ مثل هذه العمليات، ومع الأخذ في الاعتبار المسار الذي باتت تتخذه الآن عملية التفاوض بعد انتقالها من بيلاروس إلى تركيا، ولقاء أنطاليا بين وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا، ثم جولة التفاوض الأخيرة بين فريقي التفاوض الروسي والأوكراني في إسطنبول يبدو مستبعدا في الوقت الراهن، على الأقل إمكان لعب تل أبيب أي دور ذي تأثير في مسألة الوصول إلى تهدئة في أوكرانيا.
الحصار والعقوبات الاقتصادية على روسيا أثبتت عدم جدواها في إنهاء العملية العسكرية، ولكن ما تأثيرها على الأوضاع الداخلية في روسيا؟
الحرب الاقتصادية الشاملة على روسيا تأتي من جانب بلدان أوروبا والولايات المتحدة وحلفائها الذين لا يملكون السير في مدار السياسة الأمريكية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وكندا وأستراليا، لكن معظم أقاليم العالم ودوله الكبرى لم تنضم حتى الآن إلى هذه الحرب الاقتصادية أو الحصار، فهناك دول كبرى كالصين والهند وبلدان أمريكا اللاتينية وبلدان إفريقيا والدول العربية لم تنضم إلى العقوبات ولم تقطع علاقاتها مع روسيا، ولم تقلص بعثاتها الدبلوماسية لدى موسكو أو تطرد دبلوماسيين روسيين، ومع ذلك لا يمكن إغفال ما سيكون لهذه العقوبات الغربية من تأثير على الاقتصاد الروسي على المديين المتوسط والبعيد إذا استمرت هذه الحرب الاقتصادية ولم تحدث تسوية ما تقضي بتخفيفها، خاصة ونحن نشهد الحزمة الخامسة من هذه العقوبات الغربية غير المسبوقة في التاريخ بحسب تعبير رئيس الحكومة الروسي ميخائيل ميشوستين، مؤخرا، فحجم واتساع العقوبات التي فرضت على روسيا لا يمكن مقارنتها، فعلى سبيل المثال فاقت العقوبات الغربية على روسيا بعد الحزمة الثالثة منها في خلال أسبوعين فقط إجمالي ما فرض من عقوبات على كل من إيران وكوريا الشمالية وسوريا مجتمعين خلال عشر سنوات!
ومع ذلك لا يزال الاقتصاد الروسي قوياً ويقاوم ويتكيف مع المستجدات، وهو ما لم يتوقعه ساسة الغرب عند تبنيهم هذه العقوبات، كما أن السياسيين الغربيين يبدو أنهم في ظل حالة الانفعال التي يعيشونها بسبب العملية العسكرية الروسية أغفلوا مسألة التشاور مع رجال وخبراء الاقتصاد لديهم لتقييم المخاطر والنتائج العكسية لهذه العقوبات على اقتصاداتهم، وهو ما يجنون الآن ثماره من ارتفاع أسعار كل السلع والخدمات، فضلا عن الاحتقان المجتمعي وحركات الاحتجاج التي بدأت تجتاح الشارع الأوروبي بسبب غلاء الأسعار، والأيام والأشهر القادمة ستكون أكثر قسوة، خاصة إذا طالت العقوبات الروسية ملف الغاز والنفط بالنسبة لأوروبا، وهو السلاح الذي لم تلجأ موسكو -إلى الآن- إلى استخدامه بشكل مباشر، ولكن بدأت بالتدريج من مسألة مطالبة الأوروبيين بسداد مدفوعات الغاز بالروبل الروسي، ومطلع شهر مايو المقبل سيكون فصلا مهماً في هذه اللعبة الخطرة.
في الحلقة الثانية.. اتجاهات الرأي العام الروسي حول العملية العسكرية، والفرص الضائعة في الحرب، وتقييم مكاسب وخسائر روسيا.